بأمريكا و تحديداُ في في ولاية نيويورك اعتاد السكان هناك على
السير في شوارعها ورؤية مليونير عجوز أنيق ذي بذلة غالية الثمن، وهو جالس على
بساطه في يونيو سكوير يبيع آلة سويسرية تقشير البطاطاس والجزر، وهو يتحدث دون
انقطاع، بلكنة بريطانية يمدح صادقا بشكل مرح في آلة يدوية صغيرة تستخدم في تقشير
الخضروات، يبيعها بسعر 5 دولار فقط. البائع اسمه جو آدز Joe Ades، عجوز شهير بارتدائه بذلة
ثمنها ألف دولار، مليونير عصامي، يسكن في شقة فاخرة ذات غرف ثلاثة في حي بارك
افنيو – حي الثراء والتجارة، شقة عاش فيها مع زوجته الرابعة، وكانت تحوي مخزونه من
آلات التقشير التي كان يبيعها بنفسه كل يوم.
البداية
تعود أصول جو (جوزيف) إلى مانشستر في انجلترا حيث جاء ميلاده في
عام 1933، ابن لأرملة فقيرة، سبقه 6 من الإخوة، وبدأ يعمل وعمره 15 عاما، تاركا
مقاعد الدراسة، وذات يوم أرسلته الشركة التي يعمل لها ليرسل رسالة بالبريد، فمر
على جماعة من الرجال، تبيع مختلف البضائع في الطرقات، مفترشين الأرض، وعندها حيث
راقب بانبهار الصغير جو، العرض المبهر الذي يقدمه كل بائع جائل ليقنع المارة بشراء
بضاعته، التي تنوعت من أدوية الكحة إلى أربطة الأحذية.
بدء تجارته
بعد الانبهار، انتقل جو إلى مرحلة المزاحمة، إذ قرر تجربة بيع
مجلات هزلية مستعملة هو الآخر في المكان ذاته، وبعد الكتب انتقل جو إلى بيع لعب
الأطفال والملابس والأقمشة وإكسسوارات النساء. استمر جو في هذا البيع لسنة أو
اثنتين، تعلم فيها قواعد راسخة في علم المبيعات، مثل أن يبيع جالسا لا واقفا، لكي
يجلب دائرة من المهتمين ليتزاحموا حوله، فيجلب المزيد والمزيد من المتشوقين لمعرفة
ما الذي لفت انتباه هذه الجموع ولا يستطيعون رؤيته. هذا الزحام يعطي انطباعا
مبدئيا للناس بأن ما سيرونه قد يستحق فعليا الشراء.
نصيحة من مليونير : لا تقلل من قيمة أي مال
الدرس الثاني الذي تعلمه جو هو ألا يقلل من قيمة أو من أهمية أي
مبلغ صغير من المال، ولذا آثر التركيز على بيع ما سعره زهيد، وقبل أن تسأل كيف
تربح من بيع شيء بسعر زهيد، يجيبك جو قائلا بأن تبيع الكثير منه. قبل أن تستقل
بهذا الدرس، يحكي جو عن رجل اعتاد الوقوف في ميدان الطرف الأغر (ترافلجر) في لندن،
وكان يبيع أكياسا صغيرة من الحبوب لإطعام الطيور في هذا الميدان الشهير، وكان
يبيعها بأقل القليل، لكن كان يبيع الكثير منها، هذا الرجل كان يملك قطيعا من الشقق
في العاصمة لندن، جراء هذا الدرس الثاني.
أحوال العمالة في لندنة
على أن أكثر ما أثر في حياة جو – باعترافه – كان اللحظة التي أهدته
فيها زوجته الثالثة كتابا بعنوانالطبقة العاملة
في لندن – فقراء لندن، وهي مجموعة مقالات صحفية كتبها
صحفي انجليزي دقيق الملاحظة في فترة أربعينات القرن الثامن عشر، وصف فيها جميع
أحوال الطبقة العاملة في لندن، واستطرد في وصف ما الوظائف التي ستعمل فيها الطبقة
العاملة، وما الذي تعجز عن العمل فيه، وما الذي لن تقبل العمل فيه. هذا الكتاب وصف
كل شيء، بداية بصيادي الفئران والقوارض للشحاذين واللصوص والغانيات.
بائع أنيق – فنان مبهر
أكثر ما لفت انتباه جو كان وصف بائعي الشوارع، الجائلين، خاصة
العباقرة الذين اشتهروا مقل الفنانين وكان لهم برنامجهم الترفيهي البيعي، وكيف
كانوا يرتدون الغالي والأنيق من خيرة الملابس، حتى أن منهم من وضع شاربا ولحية
مزيفة، ليبدو عليه أصول الوقار والعز والثراء. أهم هدف لهم كان التميز عن غيرهم من
الباعة الجائلين ذوي الثياب الرثة والمظهر الغث الباعث على الشفقة أو الامتعاض.
آلة التقشير السويسرية التي لا تصدأ
كان جو رجلا عاديا للغاية، قلما اكترث بالقواعد، يمشي وفق هواه
أغلب الوقت، لكنه كذلك تعلم بعض الدروس القليلة في عالم المبيعات والتي التزم بها
بشدة، فجلبت له الثراء. ذات يوم مر جو على رجل يبيع أدوات تقشير الخضراوات فأعجبه
بساطة المنتج والقدرات الكثيرة التي نتجت عنه.
كذلك لطالما أحب جو البيع في
الطرقات والشوارع لا المحلات والمكاتب، وسط الناس والمارة والعامة. كذلك اعتاد جو
قيادة شاحنة صغيرة يبيع من على ظهرها منتجات عدة مثل لعب الأطفال ومشغلات الكاسيت
والأجهزة الكهربية والساعات.
تزوج جو لأول مرة وعمره 23 سنة، ثم بعد 13 سنة من الزواج سافر
وأولاده الثلاثة إلى أستراليا حيث مكثوا فيها 25 سنة، وهناك حيث طلقته زوجته وتزوج
مرتين، ثم استقر لفترة قصيرة في ايرلندا، ثم سافر ليعيش مع ابنته في نيويورك وهناك
حيث تزوج الرابعة، ليبدأ منذ عام 1993 في التركيز على بيع أداة التقشير السويسرية
بسعر 5 دولار في حي مانهاتن في نيويورك.
الوصول إلى نيويورك
لم يحصل جو على ترخيص ليبيع في سوق الخضار في نيويورك، لكن هذا لم
يمنعه من أن يحاول في كل يوم العثور على موضع ممتاز يجلس فيه ويبدأ الغناء. عدم
حصوله على ترخيص جلب له مشاكل عدة مع السلطات، وكذلك بعض الشهرة، خاصة مع الشيب
الضارب في رأسه وبذلته الفاخرة ولكنته الأرستقراطية.
يجدر الإشارة هنا إلى أن جو
تقدم بطلب رسمي مكتوب للحصول على ترخيص له بالعمل، لكنه ربما أراد ألا يوافقوا
عليه.
الغناء للمبيعات
عادة ما يختار جو الأماكن المنخفضة ويجلس فيها ليعرض بضاعته، وهو
يبدأ برنامجه الترفيهي بالغناء، قائلا حين تقشر حبة بطاطاس، لا يهم إن كنت تستخدم
اليد اليسرى أو اليمنى أو – كلاهما مثلما يفعل الساسة، ما تقشره من هذه الحبة قليل
جدا لا أهمية له، وستقشرها في زمن قياسي وحين تواجه حفرة في حبة البطاطاس فستحفرها
بسهولة، انظر مثلي الآن. هيا اقترب واشتري، لا تقلق فأنا لا أطلب مالا مقابل
الفرجة علي. لست مضطرا للشراء لتشاهدني وأنا أقشر البطاطاس بطريقتي السحرية، فلعلك
بالفعل تملك واحدة من هذه الأدوات، فلقد بعت منها الآلاف، ولذا سأعطيك دورة
تدريبية تنعش بها ذاكرتك.
لم يعمل جو بمفرده إذ كان يستعين بخدمات توني، شاب قوي، يحذره حين
يقترب رجال الشرطة، يدفع عنه حين يضايقه بعض المارة، ينظف بعدما ينتهي جو من عروضه
الفنية اليومية. في المقابل، واجه جو مقاومة شرسة من بقية البائعين في السوق، ذلك
أنه احترف لم الجموع حوله والشراء منه، الأمر الذي سمح له فقط بالبيع في أطراف
السوق مبتعدا عن المشاكل، على أن هذه المشاكل هي التي كانت تدفع جو للإبداع
والابتكار في جذب المزيد من المشترين، رغم بعد المسافة، وهو ما أتقنه.
على الجهة
الأخرى، مع ذيوع شهرة جو، بدأ المارة يبحثون معه ويشترون منه ويسلمون عليه
ويلتقطون الصور معه. لقد بدأ يحصد ثمار ما زرعه منذ سنوات طوال.
في عام أول فبراير من عام 2009 توفى جو عن 75 عاما، في اليوم
التالي لحصوله على الجنسية الأمريكية!
كان من الصعب علي معرفة مقدار ثروة جو بدقة (ربما 9 مليون دولار)
لكنه حتما عاش حياة المليونيرات، حيث اعتاد تناول الطعام يوميا في المطاعم
الفاخرة، وبعد وفاة زوجته الرابعة ورث شقتها الفاخرة. بعد وفاته، حاولت ابنته
السير على خطاه والبيع في ذات مكان أبيها المفضل، لكن هذه المرة حرصت شرطة نيويورك
على منعها من ذلك.
لماذا اخترت لك هذه القصة؟
لأن جو رجل عادي، قليل الحظ من التعليم الأكاديمي، وافر الحظ من
علوم الحياة. لاحظ جو بعض الأمور واستغلها لصالحه، وهو احترف البيع، دون شهادات
عليا ودون رأس مال أو توظيف موظفين أو مساعدة شركاء. جو رجل عادي، كان يبدأ في
الحديث مع نفسه بصوت عالي على بساطه حتى ينتبه له أحد المارة فيدخل معه في حوار
شيق فينضم له آخرون فتكون جمهرة من الناس والتي تستمع بالمادة الترفيهية في حديث
جو، وتنفض الجمهرة عادة بالشراء. حين أرادت ابنه جو دخول الجامعة، جعلها تبيع معه،
ومن عوائدهما دفع أقساط الجامعة.
يحاول كثيرون تقليد جو، منهم من نجح ومنهم من ينتظر ومنهم من
سيحاول حتى ينجح، وكلي رجاء أن تكون أنت أيضا منهم. أختم بنصيحة جو التي طالما
كررها وهي ربما كانت ذات أهمية كبيرة أو مثيرة للجدل لكنها تقول: النجاح في الحياة ليس
في فعل ما تحب، بل أن تحب ما تفعله!
بقلم رؤوف شبابيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق