اليوم سوف نسرد لكم قصة الرجل الذي طوع المطاط لاستخدام البشرية بشكل عملي
وسهل، الأمريكي تشارلز جوديير، المولود قبل يومين من نهاية عام 1800، في مدينة نيوهيفن
في ولاية كونيتيكت، وتوزع صباه بين مساعدة أبيه في مزرعته وفي مصنعه، الأمر الذي
جعله يتغيب كثيرا عن مقاعد الدراسة، لكنه امتلك عقلا يبحث عن المعرفة شغوفا
بالاختراعات، وحين كان يلعب أقرانه كان هو يفضل قضاء الوقت في قراءة الكتب.
ذات يوم وبعدما بلغ 10
سنوات، عثر على مادة لزجة غريبة، المطاط الطبيعي، والتي استهوته كثيرا ولفترة
طويلة بعدها. تميز هذا المطاط بسهولة إذابته، ثم بعدما يجف، كانت يلتصق بالأشياء
بشكل مرن. بعد عدة تجارب، تبين لتشارلز إنه في حال تمكن من حذف خاصية الالتصاق من
هذه المادة، فبإمكانه ساعتها تطويعها لتكون مادة مرنة رفيعة ذات استخدامات تجارية
عدة.
بعدما أتم أخيرا تعليمه المدرسي وعمره 16 سنة، أرسله والده إلى ولاية مجاورة ليتعلم تجارة الخردوات، حتى إذا بلغ 21 عاما عاد مرة أخرى ليشارك والده في تجارته. على مر خمس سنوات، انتعشت تجارة الأب والابن، وامتدت لتصنيع الأزرار والمعدات المعدنية وآلات الزراعة وغيرها. بعض هذه المنتجات كانت من اختراع تشارلز، الذي وجد سعادة في مساعدة الناس باختراعاته.
وعمره 24 سنة، تزوج تشارلز، ثم انتقل
بعدها بعامين إلى ولاية فيلادلفيا ليفتتح أول متجر عام لبيع الخردوات العامة، حيث
باع منتجات والده واستورد بعض البضاعة من انجلترا. كانت التجارة رابحة، ساعدته على
فتح عدة فروع في مدن وولايات أخرى، حتى انضم إلى نادي الأثرياء، وكان له من
الأبناء خمسة.
على أن قصص النجاح لا تحفل بمن عاش حياة سهلة، وكذلك كان تشارلز، الذي ما أن
بلغ 29 سنة من العمر حتى بدأ حظه
يتغير، بداية بإصابته بمرض عسر الهضم المزمن الذي كان يضطره للرقود طويلا في
الفراش، الأمر الذي منعه من الاهتمام بأعماله، تلاها تأخر سداد المدينين لديونهم،
فلم يأت العام التالي إلا بإفلاس تشارلز ووالده بسبب تراكم الديون، وليته وقف عند
هذا الحد، إذ أضطر تشارلز للتنازل عن ملكية الاختراعات التي اخترعها وصنعها سدادا
لديونه، ولما لم يكف كل ذلك، اضطر تشارلز لقضاء فترات متتالية في سجون الولاية.
هذه الفترة العصيبة ساعدته زوجته الوفية على تخطيها. حتى في السجن،
كان تشارلز مشغولا بالانتهاء من اختراعاته الجديدة في مجال الزراعة لسداد الديون
المتأخرة والمتراكمة.
بعدما خرج من السجن أخيرا، وجد تشارلز صعوبة كبيرة
في العودة لعمله السابق، ذلك أن الدائنون رفضوا العمل معه، الأمر الذي
جعله يتجه إلى ابتكار أشياء جديدة واختراعات مفيدة، لكن في مجالات بعيدة عن عمله
السابق، حتى يتسنى له البدء من جديد.
استمر تشارلز يبحث عن هذا الجديد، حتى بدأ يلاحظ في عام 1831 نشاطا
ملموسا في تجارة المطاط المحلية، وبدأت المنتجات المصنوعة منه تزدهر (خاصة في مجال
الأحذية)، فبدأ يهتم بالمطاط ويتابع تجارته عن كثب.
في عام 1934 شاهد تشارلز منتجا مصنوعا من المطاط، ووجد فيه عيبا
صغيرا، فعكف على تجاربه حتى تمكن من معالجة هذا العيب، وذهب بفكرته الجديدة إلى
الشركة المصنعة لهذا المنتج، والتي سعدت لهذا التطوير، لكنها كانت في موقف صعب جدا
وتحتاج لمن ينقذها.
كان للمطاط عيبان، الأول في فصل الصيف حيث كانت
مرونته تزيد وتنهار كتلته ويلتصق بمن يستخدمه، وأما في الشتاء البارد فكان يقسو
للغاية ويفقد مرونته وتكثر فيه الشقوق، بل إن بعض المنتجات كانت تلين بشدة وتلتصق
جراء حرارة جسم الانسان العادي الذي يستخدمها.
هذه العيوب أدت إلى تراجع تجارة
المطاط بشكل عام، خاصة وأن التخلص من المنتجات المطاطية المعيبة تطلب دفنها تحت
الأرض لأنها ذات رائحة كريهة وكل هذه تكاليف إضافية. خلاصة الموقف، إذا أراد
تشارلز بيع أي شيء لشركات المطاط، كان عليه قبلها حل مشاكلها. لكن قبل أن يتفرغ
تشارلز لهذا الهدف، كان عليه العودة إلى السجن مرة أخرى سدادا لمتأخرات دين سابق،
ولذا لم يجد بدا من أن يذهب للسجن ومعه كميات من مادة المطاط الطبيعي ليقضي فترة
حبسه في التفكير في حلول لمعضلات المطاط كلها.
لا، لم تمض القصة على ما يرام، ذلك أن
كثرة ديون تشارلز لم تترك له صديقا، كما أن المرض المزمن كان يجبره على مطارحة
الفراش لفترات، والفقر لم يسمح له بشراء ما يلزمه للبحث العلمي، وفوق كل هذا، لم
يكن تشارلز خبيرا بعلوم الكيمياء ليفهم تركيبة المطاط، كما أن غيره من علماء
الكيمياء الذين درسوا تركيب المطاط لم يجدوا أي مؤشرات تهدي من يريد علاج عيوب
المطاط الطبيعي.
أي بكلمات أخرى، كان فقيرا، مدينا، مسجونا،
مريضا، جاهلا، لكنه كان كذلك عازما على حل هذه المشكلة من أجل الصالح البشري العام.
على مر خمس سنوات تالية، قضاها في السجن، انكب تشارلز على تجاربه مع المطاط الطبيعي، وكان من توفيق الله
له أن عثر على صديق ثري سمح له بالمكوث مجانا في بيت تابع له، ليجمع فيه شمل
عائلته وينام تحت سقفه.
إذن جاء اليسر في السكن
والمأوى، لكن النفقة كانت بلا حل بعد. لم يضيع تشارلز وقتا وبدأ يكمل تجاربه في
مطبخ هذا البيت، وبدأ يضيف هذه المادة إلى تلك ويراقب النتائج، وبدأ أصدقاء
العائلة يتبرعون له ببعض المكونات الكيمائية، ليستخدمها في تجاربه، حتى بدأت
الدنيا تبتسم له شيئا قليلا.
توصل تشارلز إلى أن سائل ترنبتين يجعل من
المطاط نصف سائل، ثم إذا عالجه بمركبات كيماوية أخرى بعدها، أكسبه اللون والقوام
والكتلة الثابتة بدون اللزوجة المعتادة، وبدأ يستعمل اكتشافه هذا في صنع الأحذية
وبيعها، الأمر الذي مكنه أخيرا من اكتساب لقمة العيش وإعالة أسرته، ومع استمراره
تمكن من توظيف بعض السيدات للعمل في مطبخه لصنع المزيد من الأحذية المطاطية، بجانب
مساعدة أفراد عائلته له في عمليات التصنيع. للأسف، ابتسامات الأيام قصيرة الآجال، فما أن جاء الصيف وحره، حتى
بدأت الأحذية المطاطية التي صنعها تشارلز تذوب وتفقد قوامها وتلتصق بأرجل
المشترين، ولا تقف عند هذا الحد، بل تصدر منها رائحة كريهة جعلت الكل يشكو منها.
هذه العثرة والكبوة كانت موجعة ومؤلمة، فحتى الأصدقاء الذين نسوا تاريخ تشارلز
المالي وكانوا يفكرون في استثمار مالهم مع تشارلز ليتوسع، عادوا أدراجهم وتوقفوا
عن مساعدته وعن إمداده بالمكونات الكيميائية التي احتاجها ليعالج هذا العيب في
التصنيع. استمرت الحلقات تضيق عليه حتى بدأ تشارلز يبيع أثاث المنزل ليشتري لقمة
الخبز التي تقيم أوده وعائلته، وكأن كل هذا لا يكفي، فجأة مات ابنه الوحيد دون
سابق إنذار.
لولا أن تشارلز رجل قوي إيمانه، لكان فقد اهتمامه وأعلن انهزامه أمام لطمات الأيام الموجعة. تقبل
تشارلز أقداره بقلب مؤمن، وتقبل كذلك أن على عاتقه تقع
مسؤولية علاج مشاكل المطاط لتستفيد منه البشرية. تعبيرا
عن التزامه الشديد بهذا الهدف، نقل تشارلز عائلته لتقيم في مكان آخر، وارتحل هو
إلى نيويورك، ليقيم مع صديق استقبله في بيته وسمح له باستخدام معمله، بينما سمح له
صديق آخر باستخدام المكونات الكيمائية التي تلزمه في تجاربه. كانت الخطوة الأولى
على سلم النجاح هي التخلص من لزوجة المطاط، لكن كان هناك أشياء أخرى يجب التخلص
منها بدورها.
هذه الخطوة التي تنم عن الشغف العميق بالهدف، أدت بتشارلز لأن يبتكر طريقة تصنيع ألواح رفيعة من المطاط، لا تتأثر كثيرا أو سريعا بحرارة الجو أو برودته، ويمكن تطويعها في استخدامات عديدة. الغريب أن جهود تشارلز هذه نالت استحسان العالم الخارجي وبدأ الكثيرون يتحدثون عن انجازاته، خاصة المجلات العلمية، حتى أنه حصل على خطاب تقدير من الرئيس الأمريكي.
هذه الخطوة التي تنم عن الشغف العميق بالهدف، أدت بتشارلز لأن يبتكر طريقة تصنيع ألواح رفيعة من المطاط، لا تتأثر كثيرا أو سريعا بحرارة الجو أو برودته، ويمكن تطويعها في استخدامات عديدة. الغريب أن جهود تشارلز هذه نالت استحسان العالم الخارجي وبدأ الكثيرون يتحدثون عن انجازاته، خاصة المجلات العلمية، حتى أنه حصل على خطاب تقدير من الرئيس الأمريكي.
رغم ذلك، لم يكن المنتج
بلا عيوب، إذ اكتشف تشارلز بالصدفة أن سقوط مجرد نقطة حمض على منتجه كانت كفيلة
بأن تعود به لسابق عهده من الذوبان والالتصاق والرائحة الكريهة.
كان هذا الاكتشاف دليلا على أن مرحلة البحث العلمي لم تنتهي بعد،
بل يجب الاستمرار فيها. عندها اتفق تشارلز مع مرجل / فرن يبعد 3 أميال عن مسكنه في
نيويورك ليختبر مزيجه من المطاط، ولذا كان يعد المزيج الكيميائي ويسير إلى الفرن
ليختبر كل مزيج وهكذا المرة تلو المرة.
كان التعامل اليومي عن قرب مع المركبات
الكيميائية والأحماض ذا ثمن باهظ دفعه تشارلز من صحته، حتى أنه ذات مرة كاد أن يموت مختنقا نتيجة انبعاث الغازات من أحد التفاعلات الكيمائية التي بدأها، إلا
أن المقابل كان مزيجا كيمائيا ذا طبقة صلبة تقي المطاط من العوامل الخارجية
وتساعده على الحفاظ على قوامه وتحمل بعض الحر والبرد.
هذا المزيج كان كافيا لبدء
عملية تصنيع الملابس والأحذية والمنتجات المعتمدة على المطاط. استمر النجاح لفترة
أطول بقليل هذه المرة، الأمر الذي شجع تشارلز على بناء مصنع كبير في نيويورك، ونقل
عائلته لتقيم معه، وبدا وكأن الحياة تبتسم.
ما هي إلا شهور قليلة حتى حلت أزمة اقتصادية بأمريكا، يسمونها هلع عام 1837، والذي يعود إلى انفجار فقاعة
عقارية وانهيار أسعار تصدير القطن وتشديد شروط الاقتراض في انجلترا، الأمر ألذي
أدى إلى انكماش مالي ساعد عليه شعور الناس بالهلع وبدأ الاقتصاد الأمريكي يدخل في
مرحلة انكماش شديد استمرت قرابة 3 سنوات.
هذا الهلع نتج عنه توقف الناس عن الشراء فخسرت المحلات والشركات
فسرحت العاملين وهوت أسعار كل الأصول وكانت أزمة مالية اقتصادية مماثلة لما شهدناه
منذ سنوات. خسر تشارلز كل شيء في هذه الأزمة، حرفيا كل شيء يملكه، المصنع والبيت
والمال، حتى عاد معدما فقيرا لا يملك شيئا.
ما العمل؟ لم ييأس تشارلز، ولم يجد أمامه سوى
العودة إلى تلك الشركة التي سبق وعرض عليها نسخة أفضل من منتجها المطاطي فطلبت منه
حل مشاكل المطاط، حيث وجد في مالك الشركة نعم الصديق والرفيق، والذي أقرضه المال
وأعطاه الاحترام الذي يستحقه مخترع مجاهد مثل تشارلز.
في عام 1838، التقى تشارلز بصاحب مصنع كان يستخدم طريقة جديدة
لتجفيف المطاط. أخذ تشارلز يفكر في تفاصيل هذه الطريقة، والتي كانت بدائية بعض
الشيء، لذا استمر في تطويرها حتى توصل إلى الطريقة الصحيحة لجعل المطاط يقاوم
الحرارة والبرودة والأحماض. لقد فعلها أخيرا!
نعم، كانت هذه الخطوة هي الحل الأمثل، لكن
حين أعلن تشارلز للعالم عن اكتشافه هذا، لم يكن هناك أحد مقتنعا بما يكفي لتمويل
تصنيع اختراعه هذا، فكلامه هذا سبق وسمعوه من قبل لكن دون جدوى! مرة
أخرى، استمر تشارلز في العمل لتصنيع منتجات من المطاط تقاوم الحر والبرد والحمض،
بمفرده وبمساعدة عائلته، حتى نال منهم الفقر وشرب عليهم وأكل. لم يتوقف الحظ السيئ
عن مطاردة تشارلز، فبعد سنوات من العمل المضني تمكن من العثور على شركة وافقت على
تصنيع المطاط وفق المزيج الأخير، لكن ما أن فعلت حتى خسرت الشركة كل شيء وأفلست
وتوقفت عن العمل.
بعدها، وافق إخوة وأقارب تشارلز على أن يقوموا هم بتصنيع منتجات
المطاط وفق مزيج تشارلز في مصنع لهم ينتج الصوف.
هذه المرة توقفت الأيام عن معاركة تشارلز،
إذ كانت المنتجات الأولية من الجودة حتى أنها شجعت تشارلز على تسجيل براءة اختراع
لطريقته هذه في معالجة المطاط الطبيعي في عام 1844، وكانت هذه هي نهاية عناد
الأيام لتشارلز.
حسنا، ليس تماما، إذ فجأة انتشر اسم مخترع بريطاني اسمه هانكوك،
توصل لذات الطريقة في معالجة المطاط التي توصل إليها تشارلز، الأمر الذي منعه من
تسجيل براءة اختراعه في انجلترا. بسبب بعض التعقيدات التقنية، فاز هانوك بأحقيته
في تسجيل براءة اختراع معالجة المطاط في بريطانيا.
تحسنت الأمور كثيرا وبشكل عام مع تشارلز، فبدأ يستخدم قانون إشهار
الإفلاس التجاري مما منع عنه السجن وفاء للديون إلا أنه لم يحتاج إليه، وبدأت
الأرباح الوفيرة تعرف طريقه ما جعله يسدد جميع ديونه السابقة، ويجزل العطاء لكل من
سبق وسانده ووقف معه، كما أنه بلغ درجة متقدمة من الخبرة العلمية، الأمر الذي مكنه
من تحسين مزيجه وتطويعه لمختلف الاستخدامات التجارية والصناعية، ما زاد من عوائده،
الأمر الذي سمح له بتأليف كتاب وضع فيه خلاصة خبراته مع المطاط.
في صيف 1860 توفى تشارلز، وبعد وفاته
بأربعة عقود تأسست الشركة التي حملت اسم جوديير، ولا تزال تعمل حتى اليوم. من يتحمل ضربات الأيام، ويستمر واقفا في معاركه معها، هذا الشخص
تكون له الضحكة الأخيرة، والغلبة والنصر، مثل تشارلز جوديير.
هذه القصة في رأي الخاص هي من أصعب قصص النجاح التي كتبت عنها،
فالرجل تلقى الضربة تلو الضربة، ودخل السجن وخرج، وقاسى صنوف الفقر هو وعائلته،
وربح أشياء وخسر كل شيء، أكثر من مرة، ودفع الثمن من صحته ومن شبابه، لكنه نال
مراده وحقق ما خرج من أجله.
بقلم رؤوف شبابيك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق